(1) مع مطلع شهر نوفمبر من العام 2014 وصل عدد كبير من الحراس إلى مشارف العاصمة نواكشوط قادمين من ازويرات في مسيرة راجلة، وكنتُ من الذين استقبلوهم وكتبوا عن معاناتهم وظلوا يترددون عليهم في مكان اعتصامهم الذي قضوا فيه شهرا ونصف شهر دون أن يسمح لهم بدخول العاصمة ودون أن يستجاب لمطالبهم.
حدثني الحراس عن معاناتهم خلال رحلة السبعمائة والخمسين كيلومترا التي قطعوها سيرا على الأقدام، وحدثوني عن مطالبهم البسيطة التي رفض ولد باية ـ وهو رئيس مجلس إدارة الموريتانية للأمن الخصوصي التي يعملون بها ـ تلبيتها. كان من الطبيعي جدا أن أقف مع الحراس وأن أضع ولد بايه في دائرة الخصوم. في تلك الفترة حصلت على صيد ثمين، كان عبارة عن مقطع الفيديو الشهير (متليت آن أومتلات موريتان)، والذي كان قد أرسله لي صديق حصل عليه صدفة في أحد الفيديوهات التي خلفتها حملة ولد بايه على اليوتيب.
انتشر مقطع الفيديو في مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار النار في الهشيم، وكتبتُ حينها عن عرق ولد بايه وعن مليارته الكثير من المنشورات والمقالات، وذلك بعد أن أخذتُ مكانا متقدما في الحملة الإعلامية الواسعة التي شنت وقتها ضد الرجل.
في مطلع العام 2018 ومع ظهور مبادرة النواب الداعمة للتمديد فوجئت بأن ولد بايه ـ وعلى عكس ما كنت أتوقع ـ قد رفض وبشكل حاسم التوقيع على تلك المبادرة. شكل رفض ولد بايه للتوقيع على مبادرة النواب مفاجأة لي، بل إنه شوش على الصورة النمطية الراسخة في ذهني، وهو الشيء الذي جعلني أقوم بعملية جمع أكبر شهادات ممكنة عن الرجل، ومن أشخاص متعددين ومتنوعين كانوا قد عرفوه عن قرب خلال مساره الوظيفي. هنا فوجئت مرة أخرى، وذلك بعد أن اتفقت جل الشهادات التي حصلت‘ عليها على صورة مغايرة تماما للصورة النمطية الراسخة في ذهني، بل ومناقضة تماما لها.
خلاصة القول في هذه الفقرة هي أن هناك صورتين لولد بايه في غاية التناقض، إحداهما يتفق عليها الكثير من الناس، وهي صورة في غاية السلبية، والصورة الثانية يكاد يتفق عليها كل من عرف الرجل عن قرب وهي إيجابية إلى حد ما، وذلك حتى لا أقول في منتهى الإيجابية.
قد يسأل سائل بعد كل هذا : هل أنت نادم عما كتبت عن ولد بايه في العام 2014؟
بالتأكيد "لا"، فأنا لستُ نادما على ما كتبتُ عن ولد بايه وذلك لأني كتبتُ ما كتبتُ استجابة لمعطيات وحقائق كانت ماثلة أمامي، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لأعدت كتابة كل حرف كتبته عن ولد بايه في العام 2014.
(2) لقد تشكلت لدي صورة نمطية أخرى عن الوزير السابق ولد اجاي، وهذه الصورة تشكلت لديَ من خلال تصريحات ولد اجاي المستفزة التي واجهنا بها في حراك "ماني شاري كزوال"، وكذلك من خلال بيعه للمدارس وللأملاك العامة، ودفاعه المستميت عن عمليات البيع تلك. ولقد بلغ الاستفزاز ذروته عندما دعا للتمديد وللمأمورية الثالثة، وكان من بين ثلاثة وزراء دعوا صراحة لانتهاك الدستور. يمكن أن أضيف إلى كل ذلك بأني ـ وعلى المستوى الشخصي ـ أحمل للوزير ولد اجاي نصيبا كبيرا من ظلم كنتُ قد تعرضت له خلال العشرية الماضية.
لكل ذلك، ولأسباب أخرى لا يتسع المقام لبسطها، فقد كتبتُ الكثير من المنشورات والمقالات المنتقدة لولد اجاي، كتبتها بعد أن قررتُ ـ وعن قناعة ـ أن أتبوأ مقعدا متقدما في صفوف منتقدي الرجل. ولا أظنني سآتيكم هنا بجديد، إن قلتُ لكم بأني صدمتُ كثيرا عندما علمتُ بخبر تعيينه مديرا لشركة اسنيم. ولكن هذه الصدمة لم تمنعني من أن أبذل جهدا كبيرا خلال الأيام الثلاثة الأخيرة للوقوف على الأسباب التي أدت إلى اختيار ولد اجاي لإدارة اسنيم في هذه المرحلة، وكذلك لجمع أكبر عدد ممكن من الشهادات عن ولد اجاي، ومن أشخاص كانوا قد تعرفوا عليه عن قرب خلال مساره الوظيفي، وخاصة خلال فترة توليه لإدارة الضرائب ولوزارة الاقتصاد والمالية. هنا فوجئت أيضا، وذلك بعد أن قدم لي الجميع ـ وباستثناء شخص واحد ـ صورا إيجابية عن ولد اجاي، ومخالفة تماما للصورة النمطية التي توجد عند أغلب الموريتانيين.
قد يسأل سائل بعد كل هذا : هل أنت نادم عما كتبت في السابق عن ولد اجاي؟
بالتأكيد "لا"، فأنا لستُ نادما على ما كتبتُ عن ولد اجاي، ذلك أن دعوته للمأمورية الثالثة تكفي وحدها لتبرير كل ما كتبتُ عنه في الماضي ولكل ما سأكتب عنه مستقبلا،، فكيف إذا أضيفت لها مآخذ عديدة أخرى؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لأعدت كتابة كل حرف كتبته عن ولد اجاي.
(3) يجمع بين ولد بايه وولد اجاي بأنهما قد تعرضا لأشرس حملتين إعلاميتين خلال العشرية الماضية، وبأنهما يصنفان لدى الكثير من المتابعين والمهتمين بالشأن العام بالأكثر فسادا خلال العشرية. ويجمع بينهما أيضا ـ وتلك مفارقة عجيبة ـ بأنهما يمتلكان الكثير من شهادات الإعجاب لدى كل من تعرف عليهما عن قرب.
هذه المفارقة الغريبة تستحق أن يبسط فيها القول، وقد لا يكون هذا المقام مناسبا لذلك، ولذا فسأكتفي هنا ـ وهذا ما تقتضيه الموضوعية والنزاهة الفكرية ـ بأن أقول بأني تلقيت العديد من الشهادات الإيجابية عن رجلين كنتُ ممن انتقدهما بقوة خلال السنوات الماضية.
(4) لنعد في هذه الفقرة الأخيرة من هذا المقال لخبر تعيين ولد اجاي على رأس شركة اسنيم (رئة الاقتصاد الموريتاني التي يتنفس بها)، وذلك لتسجيل الملاحظات التالية:
أولا : لاشك أن لهذا القرار كلفة سياسية ثقيلة جدا، ولا شك أنه خلف استياءً عارما لدى جمهور واسع من الداعمين الصادقين للرئيس محمد ولد الشيخ ولد غزواني.
ثانيا : لا شك أن لتوقيت صدور هذا القرار كلفة إعلامية كبيرة، ذلك أنه تزامن مع عرض برنامج عمل الحكومة، وهذا التزامن قد حرم عرض برنامج الحكومة من تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي والذين كانوا قد انشغلوا بخبر تعيين ولد اجاي مديرا لشركة اسنيم عن التفاعل مع عرض برنامج الحكومة.
ثالثا : حسب ما جمعتُ من معلومات ومن مصادر موثوقة ومتعددة فلا صحة إطلاقا لما هو رائج من قول بأن الرئيس السابق هو من يقف وراء تعيين ولد اجاي.تعيين ولد اجاي هو قرار اتخذه الرئيس محمد ولد غزواني بناء على جملة من المعطيات منها أن الرئيس غزواني هو أيضا من المعجبين بأداء ولد اجاي، وقد ازداد إعجابه بأدائه أكثر خلال فترة الحملة، وذلك عكسا لما تم ترويجه حينها. كما أنه لا صحة لما روج له بشكل واسع من أن العلاقة بين غزواني خلال فترة قيادته للجيوش وولد جاي خلال توليه لوزارة الاقتصاد والمالية كانت علاقة سيئة.
رابعا : حسب ما جمعتُ من شهادات ومعلومات قدمها لي أشخاص يعرفون ولد اجاي حق المعرفة، فإن المتوقع هو أن ولد اجاي سيحاول أن يجعل من مسألة نجاحه في إدارة اسنيم مسألة تحدِ شخصي لابد من كسبه، بل إنه سيجعل منها قضية حياة أو موت، والراجح بأنه سيكسب التحدي نظرا لما يمتلك من قدرة على مواصلة العمل ليل نهار، ونظرا لما يتمتع به من جدية ومن كفاءة إدارية وتسييرية.
خلاصة القول : إن قرار تعيين ولد اجاي مديرا لشركة اسنيم ستكون له كلفة سياسية كبيرة، هذا فضلا عن كلفة إعلامية معتبرة، ولكنه في المقابل قد يخرج شركة اسنيم من أزمتها الخانقة التي تتخبط فيها منذ فترة.
حفظ الله موريتانيا...