(1) لقد أصيب المواطن الموريتاني خلال الأيام الماضية بارتباك شديد بسبب تعدد الفتاوى وتناقضها في بعض الأحيان، وكان من اللافت للانتباه في ظل تدفق الفتاوى الذي عشناه خلال الأيام الماضية أن الغائب الوحيد عن إصدار فتوى في القضايا التي أثارت جدلا كبيرا بين علمائنا الأجلاء خلال الأيام الماضية كان هو الهيئة الوحيدة المخولة دستوريا لإصدار الفتاوى!
تقول المادة 94 من الدستور الموريتاني في فقرتها الثالثة: "يكلف المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بإصدار الفتاوى، أي الآراء الفقهية، طبقا لتعاليم المذهب المالكي."
فلماذا غاب المجلس الأعلى للفتوى والمظالم ولماذا لم يصدر فتاوى في القضايا التي أثارت جدلا كبيرا خلال الأيام الماضية؟ ولماذا عندما تحتاج السلطة إلى فتوى لتعطيل صلاة العيد أو صلاة الجمعة بسبب تفشي وباء كورونا تلجأ إلى هيئة كبار العلماء الموريتانيين، وهي مجرد منظمة مجتمع مدني رغم القيمة الرمزية الكبيرة لأعضائها، ولا تلجأ إلى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، والذي هو مؤسسة دستورية يفترض أنها متخصصة في إصدار الفتاوى؟ ولماذا يحمل أحد علمائنا الأجلاء صفة "مفتي عام الجمهورية الإسلامية الموريتانية"، حتى لدى رابطة العالم الإسلامي، وهو ليس عضوا في المجلس الأعلى للفتوى والمظالم؟
لقد أثبتت الأيام الماضية بأننا بحاجة ماسة إلى ضبط الفتاوى وإلى تنظيمها، فإذا كان المجلس الأعلى للفتوى والمظالم له القدرة العلمية على إصدار الفتاوى فلتترك له هذه المهمة التي حددها لها الدستور، وبذلك تكون هناك جهة رسمية واحدة هي التي تتولى إصدار الفتاوى، وإذا لم تكن له القدرة على ذلك، وكانت هناك إمكانية لخلق تلك القدرة، فليتم تعزيز قدراته الإفتائية بكبار علماء البلد. أما إذا كان عاجزا بشكل كامل عن تأدية هذه المهمة، فليتم إلغاؤه وتوجيه ميزانيته إلى هيئات أو مؤسسات أخرى تؤدي خدمات ملموسة للمواطن الموريتاني.
يبقى أن أقول من قبل أن أختم هذه الفقرة المتعلقة بالفتوى بأن العبادات المرتبطة بالأهلة هي من أهم مصادر تعدد الفتاوى وتناقضها في أيامنا هذه، ولذا فقد وجب إعادة النظر في تشكيل لجنة الأهلة، وفي أساليب عملها، حتى تكون قادرة على وقف هذا الجدل الذي يتجدد دائما مع تحديد أول أيام شهر رمضان من كل عام، وكذلك عند تحديد أيام الأعياد : عيد الفطر، وعيد الأضحى.
ولتجنب تكرار هذا الجدل المتجدد دائما حول رؤية الهلال، فقد يكون من المهم العمل على:
ـ تعزيز اللجنة بالقدرات البشرية التي تحتاجها من أهل الخبرة والاختصاص؛
ـ تمديد وقت استقبال الاتصال باللجنة حتى منتصف الليل، ومثل ذلك الوقت سيكون كافيا في ظل توفر الهواتف لإبلاغ أي رؤية للجنة لمن أراد الإبلاغ عن رؤيته؛
ـ إطلاق حملات واسعة من طرف وزارة التوجيه الإسلامي تستهدف كل المساجد والمحاظر على عموم التراب الوطني تبين ضرورة المسارعة في الإبلاغ عن أي رؤية، وخطورة الحديث العلني عن أي رؤية بعد تجاوز الوقت المحدد للإبلاغ عنها؛
ـ التأكيد على ضرورة التزام الجميع بما يصدر عن اللجنة في بياناتها بعد الأخذ بكل التحريات اللازمة، ذلك أن مخالفة اللجنة قد تؤدي إلى شق الصفوف وإرباك عامة المسلمين في هذه البلاد.
(2)
في الفقرة السابقة تحدثنا عن إحدى المهام الدستورية للمجلس الأعلى للفتوى والمظالم، وهي المهمة المتعلقة بإصدار الفتاوى. سنتحدث في هذه الفقرة عن بقية المهام الأخرى.
تقول الفقرة الرابعة من نفس المادة، أي المادة 94 من الدستور الموريتاني، بأن المجلس الأعلى للفتوى والمظالم : "يستقبل مطالبات المواطنين المتعلقة بخصومات عالقة، وذلك في إطار علاقاتهم مع إدارات الدولة، والمجموعات العمومية الإقليمية والمؤسسات العمومية أو أية هيئة تضطلع بمهمة المرفق العمومي."
ويقول المرسوم رقم 134/2012 المنشئ للمجلس والصادر بتاريخ 24 مايو 2012، أن من بين مهامه:
ـ استقبال تظلمات المواطنين المتعلقة بتعاملهم مع الإدارة.
- دراسة التظلمات المقدمة إلى المجلس والتحقيق فيها.
ـ الاتصال المباشر بالقطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية المعنية بالتظلمات المرفوعة إلى المجلس، والعمل على إيجاد التسوية النهائية وفقا للعدل والإنصاف.
وبطبيعة الحال فإن هذه المهام قد تم توسيعها بعد التعديلات الدستورية الأخيرة ( 05 أغسطس 2017)، والتي تم بموجبها دمج وسيط الجمهورية والمجلس الإسلامي الأعلى والمجلس الأعلى الفتوى والمظالم في هيئة واحدة حملت اسم المجلس الأعلى للفتوى والمظالم.
أذكر أني كنتُ قد كتبتُ في وقت سابق عن وسيط الجمهورية وعن المجلس الإسلامي الأعلى، وأذكر أني قمتُ بعملية بحث واسعة عن أنشطة وسيط الجمهورية في موقع الوكالة الموريتانية للأنباء فوجدتُ أن أنشطته منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وحتى التعديلات الدستورية في العام 2017 كانت تقتصر فقط على حضور حفل رفع العلم الوطني مع كل ذكرى استقلال، والمشاركة في مؤتمرات "جمعية الأمبوديسمان والوسطاء لدول البحر الأبيض المتوسط". أما المجلس الإسلامي الأعلى فأظنه قد قدم استشارة واحدة لرئاسة الجمهورية منذ تأسيسه وحتى إلغائه في العام 2017.
يبدو أن المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بنسختيه القديمة والجديدة يسير في نفس الاتجاه، أي الغياب الكامل عن تأدية أي مهام أو خدمات تذكر.
لا يختلف المجلس الأعلى للفتوى والمظالم عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ولا عن المجلس الأعلى للشباب، ولا عن بقية المجالس الأخرى. هذه مجرد مجالس تنفق عليه في كل عام ميزانيات كبيرة، ودون أن تؤدي أي مهام تذكر، ولذا فقد أصبح من الضروري تفعيل هذه المجالس حتى تؤدي المهام الموكلة إليها أو إلغائها في حالة استمرار عجزها، وتوجيه الميزانيات التي كانت مخصصة لها إلى ما ينفع المواطنين، ويمكث في الأرض.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاظل