في خضم حملة الاعتقالات التي تلت انقلاب الثامن يونيو 2003 تم اعتقال الملازم الشاب سيدي محمد، لا لشيئ سوى أنه ينتمي لنفس الوسط الاجتماعي لقائد المحاولة صالح ول حننه.
تم سجنه في مبنى متهالك بقيادة الأركان، وبما أنه تم اعتقالي شخصيا بعد ذلك بفترة قصيرة، فقد كان المحامون يحكون لنا ظروف اعتقال الضباط، وكيف كان زملاؤهم في الجيش يتفننون في إهانتهم، تقربا وزلفى من الرئيس معاوية ول الطايع.
شاءت الأقدار أن يكون المحامي محمد الامين ول أباه ول حامد، الذي تعهد للدفاع عني هو نفس المحامي الذي تم اختياره للدفاع عن الملازم سيدي محمد، وهو ما خلق بيننا تعاطفا تلقائيا رغم المسافة، وأصبح كلانا يتابع تطورات محاكمة الآخر.
تمت إحالة الملفين للمحكمة، التي أصدرت بالنسبة لي حكما بالسجن خمس سنوات مع وقف التنفيذ وغرامة 200 ألف، أما الملازم سيدي محمد فقد صدرت بحقه براءة من جميع التهم، وخرج حرا طليقا.
رجع صديقي إلى إدارة الأركان، ظنا منه أنه سيتم استقباله بالورد والزهور، فما كان من قائد الأركان حينها إلا أن أصدر أوامره بتسريح الملازم سيدي محمد، صحبة جميع الضباط الذين ينتمون لنفس الوسط الاجتماعي لصالح ول حننه !
أثناء الاجتماع تدخل مدير المصادر البشرية قائلا : "سيدي القائد، مباشرة بعد اعتقال هؤلاء الضباط، كان يمكن أن نقوم بتسريحهم لسبب أو لآخر، أما الآن وقد أصدرت المحكمة قرارا ببراءتهم، فيستحيل قانونا تسريحهم".
فأجابه قائد الأركان : ما هي أقصى عقوبة يمكننا إنزالها بهم إذن ؟
في تلك الأثناء كانت موريتانيا تخوض حربا ضارية ضد الجماعات المسلحة، وكان ذلك فترة قليلة بعد حادثة الغلاوية الأليمة، فتقرر إبعاد الملازم سيدي محمد وتعيينه قائدا مساعدا للوحدة المرابطة في منطقة الغلاوية.
وهكذا وجد صديقي نفسه في منطقة نائية، مع راتب 30 ألف أوقية شهريا بدون علاوات، يقتطع منها 5 آلاف لمصاريفه الشخصية، والباقي يتم إرساله للأسرة في نواكشوط وهو مبلغ يكفي بالكاد لدفع الإيجار.
وتمر السنون، ويتغير النظام ثم تصدر الأوامر العليا بإطلاق مجلة خاصة بالجيش الوطني، تم تكليف العقيد البخاري محمد مؤمل بالإشراف على تحريرها.
عكف العقيد البخاري على تكوين نواة لفريق التحرير، وكان كلما سأل يقولون له : "إذا كنت تبحث عن شخص في الجيش يتقن التحرير المهني، فهناك ملازم في الغلاوية يدعى سيدي محمد، لن تجد أحسن منه ولا أكثر مهنية".
طلب البخاري لقاء قائد الأركان الجديد وعرض عليه الأمر، فقال له : "أكتب طلبا لإدارة الأشخاص". أياما قليلة بعد ذلك كان الملازم سيدي محمد يجلس في مكتب صغير بقيادة الأركان، يعكف مع زملائه على إصدار أول عدد من مجلة الجيش.
بعد سنوات تطورت أساليب العمل، وتم تكوين إدارة مكلفة بنشر الجريدة وإدارة موقع إلكتروني وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، تعتبر مصدرا لأخبار الجيش، ترجع لها جميع وسائل الإعلام المحلية والدولية.
وتتوالى الصدف على شكل دروس تمنحها لنا الحياة مجانا : نفس المبنى المتهالك، الذي كانت قيادة الأركان تستخدمه كسجن، أصبح اليوم يحتضن إدارة الاتصال والعلاقات العامة للجيش الوطني.
اليوم أصبح الملازم سيدي محمد هو المدير، وسبحان الله تتوالى الدروس والعبر : نفس الغرفة التي كانت سجنا لسيدي محمد وزملائه الأربعة، أصبحت اليوم مكتب المدير !
وفي فصل جديد من عملية إعادة الإعتبار هذه، صدرت الأوامر بالأمس بترقية المقدم سيدي محمد ول احديد إلى رتبة عقيد، مع صلاحيات واسعة لعصرنة جميع عمليات الاتصال والعلاقات العامة للجيش، وجعلها قادرة على مواكبة التطورات والتحديات الجديدة.