التعليــم العـالي: الهويـــة والأداء / محمد يحي ولد باباه

ثلاثاء, 17/03/2020 - 11:49

يستقل التعليم العالي موقعا متميزا في السلم الدَّرجيِّ لمستويات الأنظمة التربوية لأي مجتمع، فبحكم رقي و نضج الوعي المفترض داخل ساحته، يكوِن القلعة التي تلخص المعاني الشمولية لحركة الخلق و الإبداع و قيادة المشاريع الإصلاحية في شتى الميادين، و هو الآلة المتحكمة في إنتاج الكفاءات القادرة على تحمل مسئولية ترقية أوجه الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و ترقية الوعي الجماعي المبني على توطيد أركان التعاون و الوئام و حماية المصلحة العامة، و فضلا عن هذا و ذاك، فهو الساحة الحرة لمختلف المشارب الوطنية الملتزمة و ميدانا لتعميق فعل التثاقف و تأسيس مستويات الحوار مع الآخر بصوره المختلفة.

   هوية إذن، تجعل التعليم العالي أداة مركزية لتحقيق التنمية و مواكبة العصر، لكن كل ذلك ـ بطبيعة الحال ـ في حدود تجسد هذه الهوية في الواقع من ناحية، و استيفاء الوظيفة و تأدية الرسالة من ناحية أخرى، فلم تعد المرحلة تركن للمنازع التنظيرية البرَّاقة التي يحتمي تحت ستارها ممتهنو توزيع الوعود المغرية التي لا تتجاوز قيمها العملية في عالم التربية سوى ما تفوز به من أناقة حبك الصياغة.

     نعم إن المرحلة هي في الحقيقة مرحلة التصرف طبقا للروح البرغماتية التي تمثل النجاعة العملية والمنفعة العمومية أهدافها الكبرى، نلمس ذلك بجلاء فيما تحقق من خطوات وطنية كانت في الماضي القريب بعيدة المنال، وأصبحت واقعا معيشا، وفي هذا الأفق المجرد من العوائق التي مافتئ يبذرها ويرعاها ما يمكن أن نطلق عليه" فعل تسييس السياسات التعليمية ".  ينبغي أن نؤسس لتعليم عال تنتشر في أكنافه مفاهيم الجودة بكل معانيها، و لا يتأتى ذلك إلا عبر عمليات التقدير السليم و التقويم الموضوعي لأداء الأفراد ( هيئات التدريس ) و قياس حصيلة ما قدموه للمستفيدين من العملية الأكاديمية، مثل الطلاب أولا، و الجامعة بصورة عامة، و المحيط العلمي المحلي بوجه خاص، كما أن الاستثمار في تعزيز الأرصدة التوثيقية و إقامة الوسائل التقنية الضرورية لاختصار الطرق المؤدية للمعومات العلمية، يمثلان أهم مقومات التعليم الجامعي في عصرنا الحاضر .

    إن ما بات يمثل في عصرنا الحاضر عقبة حقيقية في سبيل تطوير النظام التعليمي الجامعي هو في الحقيقة تعـقُّد المساطر الإدارية الجامعية و الفصل بين المكونتين الرئيسيتين لأداء التعليم الجامعي ( الإدارة الجامعية ـ هيئات التدريس )، لأن النظر إليهما كوحدة تتبادل الأدوار في صياغة الفعل الأكاديمي الناجع هو ما يجنب العملية التربوية الكثير من الصعوبات، ويضمن تعاونا مثمرا يتيح مستويات عالية من الجودة و يحمي المؤسسات من المركزية المفرطة المنتجة للروتين الذي يؤدي إلى ضعف الأداء.

 هذا و من المعروف أن الدفع بالقدرات التقنية و المعرفية نحو تحسين النوعية في الفضاء التعليمي، يعتبر من أهم وسائل النهوض بمستوى التعليم و ملاءمته مع حاجات السوق الوطنية من الكفاءات العلمية، كما أن ضرورة الاستثمار في مجالات البحث العلمي و تشجيع روح المبادرة لدى الباحثين، يمثل هو الآخر أهم المطايا لترقية التعليم الجامعي و إدماجه في الجهد التنموي العام.

و إذا كانت المرحلة تقتضي الانتباه إلى ضرورة بناء رؤية عملية للنهوض بهذا القطاع الحيوي، فإن أول ما يتقدم  من عناصر في هذا الاتجاه، الانطلاق من تعلق ارتباط هذه الرؤية بمختلف الفاعلين في القطاع، فلا يتعلق الأمر بالإدارة الجامعية وحدها دون هيئة التدريس و جمهور المستفيدين من الطلاب أنفسهم، فإذا كان الدور الأكبر لرعاة شأن التعليم العالي، فإن دور المستفيدين يبقى جوهريا من حيث مواكبة جميع عمليات الإصلاح و التفاعل مع المؤسسات التعليمية بحس واع و مدني يحترم لوائح الحياة الجامعية و ينسجم مع مجريات تكوينهم العلمي بروح الحياد و الاستقلالية الموضوعية المطلوبة.

  نعم ذلك ما سيحقق للتعليم العالي هويته كساحة حاضنة لحركة الخلق و الإبداع و قيادة المشاريع الإصلاحية العملاقة في وطننا العزيز الذي يعرف في هذه المرحلة نزوعا للنخبة و رعاة الشأن العام إلى الارتقاء بوعينا الجماعي إلى درجات عليا من التطور نحو إدراك معوقات التنمية و العمل على تجاوزها طبقا للأساليب المناسبة