لا يصح أن تمر مناسبة اليوم العربي للغة العربية دون أن نتذكر ونترحم على أول رواد التعريب الإعلامي في هذه البلاد المرحوم والأستاذ محمد الأمين ولد آكاط الذي كان أول مذيع تكتتبه الإذاعة لتقديم النشرات.
نشأ المرحوم محمد الأمين ولد آكاط في وسط علمي نهل فيه من معارف العلوم الشرعية واللغوية وعلوم القرآن، حتى إذا نضب ما أمكنه تحصيله من العلوم بين مضارب منازل أهله، ارتحل طلبا للعلم في أرجاء بلاد الله الواسعة، فقادته رحلته المعرفية تلك إلى تتبع العلماء على طريق الحج من أقاصي الشرق الموريتاني، مرورا بالمدن المالية العامرة حينها بعلماء الشناقطة ليستقر به المقام في دولة نيجيريا، حيث استقر عدة سنوات، فكان منزله العامر في منتصف الألفية الفارطة مستقرا ومقاما طيبا لكل قاصدي بيت الله الحرام والمشتاقين لزيارة قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، بل وطلاب العلم الذي يفدون إليه في طريقهم إلى السودان أو إلى الأزهر الشريف ولعلنا نفرد مقالا عن رحلته الطويلة في طلب وتدريس العلم الشرعي (1) .
وبعد عودته إلى موريتانيا شارك في مسابقة القضاة و تم ابتعاثه إلى تونس لكنه فضل العمل الصحفي لحاجة البلد الناشئ إلى متخصصين في هذا المجال. (2)
ولكي لا نبتعد عن مدار الحديث هنا فقد انتبه المرحوم محمد الأمين ولد آكاط في نفسه - وهو ما أكده في مقابلة إذاعية سنة 1976 (3) - لميل خاص إلى جهة الإعلام المسموع حينها؛ فكانت لا تفوته شاردة ولا واردة من أخبار العالم حينها؛ يتتبعها في إذاعة البيبسي طيبة الذكر، فكان ينتبه إلى تفاصيل الإنتاج الإعلامي المسموع وطريقة صياغة النشرات وآليات الإخراج، حتى أهله ذلك إلى التفرد بأسلوبه وبرامجه الخاصة فباشر العمل في الإذاعة فور عودته إلى أرض الوطن في نهاية خمسينيات القرن الماضي، إبان فورة التحضير للاستقلال الوطني وما شهدته تلك الحقبة من ميلاد للدولة الموريتانية الحديثة، وهو ما دفع كل معاصريه من الإعلاميين وأصحاب الرأي إلى الإشادة بقدراته الفذة وتمكنه بل وإبداعه!
يقول عنه السفير السابق محمد محمود ولد ودادي أطال الله بقاءه، الذي هو ثاني مذيع باللغة العربية في الإذاعة الوطنية قبل أن يصبح أحد أبرز مديريها، يقول في برنامج تم تسجيله مؤخرا للإذاعة "أن الفضل في نشر وشيوع التحدث باللغة العربية يعود إلى الأستاذ محمد الأمين ولد آكاط، فقبله لم يكن الحديث بها ممكنا فأحرى أن يكون شائعا، وتظهر أهمية ذلك جلية في ما صاحب أول بث إعلامي باللغة الفصحى قام به الرجل وما صاحبه من شجب من طرف المدير الفرنسي حينها".
كما يقول عنه الإعلامي الأستاذ "السني عبداوة أن الفضل يعود إليه في تأسيس الخط الإعلامي الرزين الذي تميزت به الإذاعة الوطنية حيث لم تتبنى المنحى الإفتائي المتشدد للحصول على مساحة من الحضور، بل كان كل من مارس الإفتاء عبر أثيرها من الفقهاء المتمكنين معتدلون ويعود لهم الكثير من الفضل في نشر ثقاف الاعتدال والتسامح، كما كان له الفضل إذ لم يقبل أن يجرفها تيار الخفة والطرب بما فيه من أسفاف وخفة بل سهر بآرائه ومساعيه إلى أن يظل محتواها متوازنا دينيا وثقافيا واجتماعيا".
وعموما يمكن الحديث عن المسيرة الإعلامية للراحل من خلال ثلاثة محاور أو محطات رئيسية هي:
*مرحلة التأسيس: أي تعريب وتفصيح نشرة الأخبار
*برنامج برنامج إخواننا في الشمال
*برنامج البلغات والاتصالات الشعبية
أولا مرحلة تأسيس الدولة
بعد تعيين محمد الأمين ولد آكاط في الإذاعة الوطنية كان يتم تسجيل نشرة الأخبار بالحسانية المحضة، التي تخلو من أي عبارة تمت بصلة إلى اللغة العربية ونظرا لما طرحه ذلك من فقر في المصطلحات والصيغ التي تعبر عن الحالة الجديدة - ميلاد الدولة- استغل الاستاذ محمد لمين الفرصة وقام بتحرير أول نشرة بالفصحى كما نعرفها الآن من حيث المصطلحات والصيغ الإخبارية وهو ما مثل حينها صفعة كبيرة للإدارة الفرنسية المتحكمة في كل شيء وقد تحدث عن الموضوع الكثير من معاصري المرحوم، حيث مثل حدث من أحداث سنوات ما بعد الاستقلال، و راجعت الإدارة الفرنسية حينها المرحوم الرئيس المختار ولد داداه في الموضوع وطلبوا منه استفسارا حوله فاتصل الرئيس المختار بالوزير المرحوم سيدي محمد الديين الذي طلب من محمد الأمين الحضور إلى الرئاسة وبعد استفساره اظهر لهم ان هنالك عبارات تعجز الحسانية عن التعبير عنها وهو ما دفعه إلى صياغة النشرة بالعربية فما كان من الرئيس المختار إلا أن قال له : "محمد لمين قل ما تريد، قل السفير وقل القنصل فأنت مؤتمن على ما تقوله" والحادثه مشهورة وتحدث عنها الكثيرون في أكثر من مناسبة ومنهم المرحوم كابر هاشم الذي صنف هذا الحدث على أنه قنبلة ثقافية.(4)
ذلك "الانفجار الثقافي" تفاعل معه واستحسنه كل من يستمع إلى الإذاعة ووصلت إلى المذيع محمد لمين ولد آكاط رسائل التهنئة من كل مكان وخصوصا من منطقة بوتليميت القريبة من انواكشوط، تلك الرسائل التي كانت بلسما أمام توبيخ إدارة الإذاعة ومثلت دفاعا شعبيا عن ما قام به. اصداء تلك التبريكات وصلت إلى الأذن الواعيةللرئيس المرحوم المختار ولد داداه فتفاعل بسرعة مع الحدث من خلال إقالة مدير الإذاعة الفرنسي حينها وتعين أول مدير موريتاني الجنسية وأصدر الأمر باستمرار النشرة بالفصحى واضعا بذلك اللبنة الأولى للاستقلال الثقافي عن المستعمر.
كان لهذه الحادثة الأثر الكبير في كسر الحواجز أمام استخدام الفصحى في البرامج الدينية والثقافية في الإذاعة ثم في التلفزيون بعد ذلك.
ثانيا برنامج إخواننا في الشمال
عندما أُعلن الاستقلال الوطني واجهت الدولة الجديدة تحديات كثيرة من ضمنها تحدي الاعتراف الدولي وبدأت رياح الاعتراض التي تحولت إلى مطالب إقليمية أتت من الشمال (الجارة المغرب) بعدم الاعتراف بالدولة الجديدة والتحق بهذا الطرح من التحق به من الفاعلين الوطنيين لتواجه موريتانيا حملة إعلامية شرسة تشكك في أهليتها للاستقلال بل تطالب صراحة بضمها، وتألفت لذلك مجموعة تضم بعض الشخصيات الوازنة وبدأت بشن حرب إعلامية لا هوادة فيها مستخدمة بعض الإذاعات ووسائل البث المتاحة فكان لا بد للكيان الجديد- موريتانيا- الأعزل إعلاميا من كل الوسائل التي يمكلها الطرف الآخر من الرد للدفاع عن نفسه ! فتصدى لتلك المهمة الصعبة المرحوم محمد لمين ول اقاط مستخدما ماهو متاح من وسائل اعلامية متواضعة.
يقول المرحوم الرئيس المختار ول داداه في مذكراته ص271 "فالمغرب يمتلك إذاعة قوية تبث من عدة محطات أما نحن فلا نتمتلك إلا جهازا واحداً للإرسال بقوة 20 كلوات وكان علينا أن نوجهه نحو الشمال لنبث من خلاله برنامجا خاصا موجها إلى المغرب ...هذا البرنامج كان ينعشه بكثير من الحماس الوطني محمد الأمين ولد آكاط وكان وحده الذي يعمل به بوسائل محدودة جدا ومع ذلك كان يستمع له الكثيرون في جنوب المغرب كما كان يستمع إليه الكثير من المواطنين داخل الوطن.
ويضيف المرحوم الرئيس المختار ولد داداه متهكما " لم يكن محمد الامين ولد آكاط يستخدم البرنامج ليلعب دور المطري للجارة الشمالية مما جعله يهدد بالاغتيال عدة مرات وقد بدأت قضية البرنامج تشغل بال الحكومة المغربية فطلب وزير الإعلام في أول فرصة سنحت له إيقاف هذا البرنامج مقابل إيقاف المغرب برامجها الموجهة ضد الجمهورية الإسلامية الموريتانية وهي برامج لم تكن لطيفة معي شخصيا ولا مع حكومتي ".
استمر هذا البرنامج حتى أيقافه في ظل صفقة سياسية، وكان المرحوم محمد الأمين يعتمد فيه على السخرية من خصوم الدولة ويبدع في ذالك بملاحته واستغلاله لكل الفنون الأدبية، حيث كان للبرنامج دور مؤثر على نفسية الشخصيات الوازنة التي اختارت الجانب الآخر وهو ما دفع ببعضها إلى الرجوع إلى أرض الوطن ويمكن متابعة بعض تفاصيل هذه الفقرة من تاريخ البلد في حلقة الإداري عبد الله ولد سيديا ولد ابنو الذي كان سكرتيرا خاصا للرئيس المختار ولد داداه. (5) أو في مقال الكاتب الفرنسي سيباستيان بولاي من جامعة السوربون (6) أو في مقال الدكتورين سيد أحمد ولد الأمير و الشيخ ولد سيدي عبد الله (7) و (8).
قبل إيقاف البرنامج استدعى المرحوم الرئيس المختار ول داداه محمد لمين ولد آكاط لإبلاغه أن البرنامج حقق أهدافه وأن إيقافه سيتم ضمن صفقة لتسوية علاقات موريتانيا الإقليمية، لكن قبل ذلك عليه أن يحدد المكافأة التي يريدها لتقدم له باسم الدولة الموريتانية، فرد عليه المرحوم محمد الأمين : سيدي الرئيس الجندي لا ينتظر مكافأة أحرى أن يطالب بها، ويكفيه فخرا أن العدو لم يدخل من الثغر الذي يحرسه، وأضاف أنا في الحقيقة نلت مكافأتي بتحقيق البرنامج لأهدافه. ومع إلحاح الرئيس المختار على المكافأة لمح محمد الأمين أنه بحاجة إلى إجازة مدفوعة الأجر لمدة ستة أشهر للتفرغ لبناء سد في قريته انصفني، ليأخذ تلك الإجازة ويجلس في القرية مدة ستة أشهر كانت كافية ليكتشف كم أن كل القرى والمدن الوطنية تعيش في عزلة شديدة عن العاصمة، خصوصا في ظل عدم وجود أي وسيلة من وسائل الاتصال، الأمر الذي حذى به إلى التفكير في استخدام الإذاعة لسد تلك الفجوة، وفور عودته إلى نواكشوط قدّم إلى الإذاعة فكرة برنامج البلاغات والاتصالات الشعبية والتي تقوم أساسا على إيصال رسائل المواطنين عن طريق الإذاعة مقابل مبلغ رمزي يدفعونه للإذاعة.
ثالثا برنامج البلاغات والاتصالات الشعبية
وهو برنامج عبقري قال عنه بعض الباحثين أنه أحد أنجح البرامج الإذاعية التي أعدتها الإذاعات في العالم ويمكن مطالعة تلك الشهادات في المقالات التالية (9) و (10)
استمر البرنامج لأكثر من خمسين سنة، ولمن يريد أن يعرف أهميته عليه أن يعود ستين سنة للوراء ليرى أن هذا البلد المترامي الأطراف وحديث النشأة، لا توجد به أي وسائل للاتصال، لا هواتف ولا بريد منتظم ولا مواصلات فعالة، والدولة ناشئة، و المواطنون بحاجة لأي وسيلة يوصلون عبرها رسائلهم لتخرجهم عن عزلتهم، بل الدولة نفسها بحاجة إلى برنامج يربط المستمعين بها، فكان هذا البرنامج خلطة سحرية حققت كل ذلك بالإضافة إلى توفيره مورداً ماليا هاما للإذاعة هي في أمس الحاجة إليه، تحول البرنامج مع الوقت إلى وحدة توقيت، فكان الناس كثيرا ما يسمعون حدث كذا قبل بث البلاغات أو حدث كذا بعدها، تحول البرنامج كذلك إلى فرصة لتهجئة أسماء الأسر الموريتانية تهجئة صحيحة، وساعد في فك العزلة عن كثير من المواطنين؛ فكانت تصل رسالة في البلاغات تبلغ فلان في تكانت مثلا أن أخاه فلان سيصل إلى مدينة اشرم في اليوم الفلاني ويريده أن يكون في استقباله ولكم ان تتصورا صعوبة الطريق حينها وانقطاع كل وسائل التواصل تقريبا.
رغم أهمية هذا البرنامج لم يخلو هو الآخر من مواجهات خصوصا بعد إطلال اللغة العربية برأسها من خلاله، فقد استفز إصرار محمد الأمين ولد آكاط على تقديمه بالفصحى كثيرا من المتفرنسين وأعداء اللغة العربية فقاموا بتقديم شكاية إلى حزب الشعب الذي أرسلها بدوره إلى الإذاعة.
يقول المرحوم محمد سعيد ول همدي الذي كان يومها مديرا مساعدا للإذاعة الوطنية (11): "وصلتني شكاية محولة من الحزب تقدم بها البعض ضد محمد الأمين ولد آكاط محتواها أنه يقدم برنامج لا يحتاج إلى الفصحى وهو مصر على تقديمه بها، كلمت محمد لمين فالموضوع" يقول محمد سعيد "فقال لي دعوا الناس تتعلم فسيأتي اليوم الذي يقوم كل واحد بكتابة بلاغه بالفصحى ويقدمه للإذاعة دون الحاجة لإعادة تحريره" ويضيف المرحوم محمد سعيد ول همدي "عندما راجعت قيادة الحزب قالوا لي سننظر في الموضوع فيما بعد فتركت محمد الأمين يقدم برنامجه بالطريقة التي يراها مناسبة وقد تجاوز هاذ البرنامج في نجاحه كل التوقعات.
حصل المرحوم محمد لمين ولد آكاط في حياته على جميع الأوسمة الوطنية تقديرا للجهود الكبيرة التي بذلها في خدمة وطنه، فهو أول من حصل على وسام الاستحقاق الوطني سنة 1961 (أي في أول دفعة يتم تكريمها بعد الاستقلال) لكنه للأسف لم ينل التقدير والمكانة الكافيين وسط أبناء موريتانيا المعاصرين، وخصوصا في الحقل الإعلامي، الذي ظل قاصرا عن الاعتراف لذلك الجيل من مؤسسي البلد بفضل وأجر التضحيات الجسام التي ضحوها ليتركوا لنا دولة ما زلنا نتفيء ظلالها ونعيش في أمنها وعافيتها.
رحم الله جيل التأسيس وحفظ موريتانيا.